14
أغسطس
2020
المثقف العربي وهيمنة الخطاب الانحيازي د. سامي الزيدي
نشر منذ Aug 14 20 pm31 07:46 PM - عدد المشاهدات : 849

المثقف العربي وهيمنة الخطاب الانحيازي 
 د. سامي الزيدي
   المثقف هو عين المجتمع التي يبصر من خلالها ماضيه وواقعه ويستقرأ بنباهة مستقبله ، وهو من يضع يده على علل الامور ويشخصها بمبضع حادق لبيب، والمثقف هو درع المجتمع الحصين الذي يقيه ضربات الخصوم، فالأمة التي لم يولد فيها المثقفون امة خاوية ميته ، والامم تنهض وتتقدم بفكر مثقفيها، وكلما كانت مساحة حركة المثقف في الامة واسعة كلما كان انتاجه اكثف وتنبؤاته اعمق . مما يؤسف له ان امتنا العربية على الرغم من وجود المثقفين فيها الا ان ثقافتها احادية الجانب ، تؤثر في انتاج المثقف الخطابات الايديولوجية ، والانتماءات الفرعية ، فالمثقف العربي تبعيضيّ الانتاج ، منحصر الثقافة في بعض جوانب انتمائه لا يتعداها الى النظرة الشمولية للامة ،  فهو شديد الانحياز الى طرفه ، وشديد الكراهية للطرف الاخر ، يعيش فكرة الغلبة والهزيمة في آن واحد ، يتأثر في الخطابات الآنية ويشوش افكاره رضا العامة من الناس ، فهو مجرور للناس لا جار لهم .
  لا يخلو مجتمعنا العربي من المثقفين الا اننا نجد المثقف العربي يقف بزاوية من زوايا مربع الامة ويمسك به ويعتقد انه امسك بالمربع كله ، او ان المربع بأجمعه خطأ والزاوية الوحيدة الصحيحة هي التي يقف بها . فمثقفنا اما ان يكون متدينا متأثرا بالخطاب الديني يقرأ الحياة من منظور اعتقاده وانتمائه ، فهو يقف من الماضي موقفين متضادين يفسر من خلالهما التأريخ بناءً على منطلقاته الفكرية وقبلياته الاعتقادية ، موقف يتحيز له بشدة ويجر اليه كل المواقف ويؤول ما يمكنه في الدفاع عن اعتقاده ، وهو يظل في عداء مستمر مع الماضي المختلف والحاضر المختلف ، فهو يقرأ الحاضر على وفق الماضي متحيزا فيه لمناصريه ولاعنا لخصومه الفكريين ، اما تنبؤاته للمستقبل فلا تتعدى محاولة الايهام بالغلبة والانتصار على الخصوم وهزيمتهم، فهو يعيش صراع المحاور المستمر والمزاعم والاوهام ، ويعتقد اينما حل بأنه الممسك الوحيد بالحقيقة، والجميع يجب ان يستمع له وهو ينور ابصارهم بترهاته ومزاعمه واوهامه .
  ومثقف اخر يخرج من جلباب الدين بعد ان كان اشد المتطرفين فيه، ليذهب صوب طرف اخر من زوايا المربع معتقدا انه الوحيد الذي استطاع ان يكتشف الحقيقة وانه زال عنه الريب والزيف الذي ابتلي فيه سنوات في ظل المتدينين وافكارهم ، وهذا لا يتعدى ان يكون في معركة مع خصومه من ابناء جلدته، فهو مازال يبحث عن نفسه منشغلا في اجواء الخصومة والنزاع، منفعلا بشدة للاتجاه الذي انتمى له يحاول ان يبرر للناس سبب التراجع عن اعتقاده السابق بكيل التهم لما كان يعتقد به ، فهو انفعالي في قراءته للماضي ، وكيال التهم للحاضر ولا يملك تصورا واقعيا للمستقبل.
    ومثقف يعتقد ان الثقافة هي الارتماء بأحضان اوروبا واستيراد نظرياتها الجاهزة وحفظ فلسفتها والتمنطق فيها ، فهو يعيش خصومة واقعية مع ذاته ومجتمعه وبيئته ، فهو في زاوية من زوايا الامة يتعالى عليها بألفاظه وما حفظه من المصطلحات المستوردة، فلا هي تفهمه ولا هو يدرك حجمه فهو ليس اوربيا بذاته وثقافته وبيئته ، وليس عربيا بانتمائه ووجوده، فعندما يقرأ الماضي يقرأه بعقل الناقم ، وعندما يقرا الحاضر يقرأه بتذمر فهو يكيل الاتهام الى الامة متناسيا ان الامة بمثقفيها ، شديد المقارنة بين الواقع العربي والاوربي يشخص الاسباب ولا يملك العلاج فهو مريض بداء التغريب .
  مثقف اخر همه الحضور والحظوة عند اصحاب الشأن والسلطان ، فثقافته مكرسة لخدمة مصالحه الذاتية النفعية فهو كإبرة البوصلة يدور حيث تدور المصالح والامتيازات، فقراءته لمشاهد الماضي تختلف من مقام لمقام وباختلاف الازمنة فهو يقرأ بحسب الموقف والمصلحة والحضور ، ليس لديه مبدأ ثابت ، وغير مستعد للتضحية من اجل الامة، ينتهز الفرص، حاضرا في كل المشاهد التي يرى انها من الممكن ان تحقق له طموحه ، يغير قراءته وخطابه بشكل سريع ، يتنصل عما قال فيه ، ولا يعرق له جبين عندما ينتقد على فعل مشين . 
  مثقف علماني يعتقد ان العلمانية هي صراع مع الدين لذا يعيش الخصومة مع المتدينين يكيل لهم التهم ويشتمهم ويهزأ بأفكارهم وسلوكياتهم ، لا يملك مشروعا حقيقيا يتلاءم مع الواقع العربي ، اذ انه يعيش على هامش العلمانية الاوربية، ينظر الى التاريخ نظرة التفاهة والتحقير ، وكثير النقمة على الحاضر يطالب الامة بالتغيير وان تتنبه الى وجوده، يصعد الموجة التي يجدها ضد الدين والتدين ، فهو لا يقدر ان يقدم مشروعا متكاملا يجعل الامة تثق به ، كما ان مشروعه غير واقعي وبعيد عن البيئة الثقافية والاجتماعية والتربوية التي يؤمن بها المجتمع فهو يعيش القطيعة مع الامة ويعتمد على سقط متاع .
  نحن بحاجة ماسة الى مثقف ينتمي للامة لماضيها وحاضرها ومستقبلها يحملها على عاتقه ولا يطالبها ان تحمله على عاتقها . ينظر اليها نظرة الابن البار الذي لا يأنف من وجه امه سوداء كانت او بيضاء عرجاء كانت ام عمياء ، فهو دليلها وطبيبها ومشخص عللها ، يبحث في تاريخها ليستخرج منه ما يجعلها امة موحدة متكاتفه متماسكة وينبه بروح العطف الى مواطن خللها وعللها ليزيله فيشفيها ، وينظر الى الحاضر الى انه حاضر مفروغ منه لابد ان نعيشه ونضع ايدينا بمواطن الخلل لإصلاحه وتنشيط مكامن القوة فيه معتمدين على طاقتنا وامكانيتنا متصالحين مع انفسنا وواقعنا وامكانياتنا لننهض كأمة تملك مقومات النهضة والتقدم . فمثقفنا ليس بالضرورة ان يكون متدينا لننهض من عباءته نحو المستقبل فالدين انتماء وجداني وهو حالة ذاتية نفسية بين العبد ومعبوده، ولا نريد مثقفا علمانيا لكي يهدم لنا ماضينا وينزع عنا هويتنا ويدخلنا في صراع مع واقعنا وبيئتنا وعاداتنا وقيمنا الاجتماعية ، فله هو ما يشاء من الانتماء لكننا نريده ان يكون منتميا لماضينا وواقعنا وبيئتنا وان تكون حلوله على ضوء الواقع والمجتمع ، وليست حلولا مستورده تريد ان تفصلنا حسب مقاسها لا نفصلها حسب مقاسنا .
  فأزمتنا الحقيقية هي ازمة المثقف العربي قبل ان تكون ازمة الامة ، فالمثقف العربي يطالب الامة ان تتغيّر ولم يقدم لها مشروع التغيير ، فهو مغيب.....
يتبع الجزء الثاني ..

صور مرفقة






أخبار متعلقة
مشاركة الخبر
التعليق بالفيس بوك
التعليقات
اعلانات تجارية
اعلانات تجارية
استطلاع رأى

هل انت مع الجيش العراقي ؟

0 %

0 %

0 %

عدد الأصوات : 0

أخبار