15
ابريل
2022
قراءة معاصرة في فلسفة العدالة عند الامام علي(ع) ا.د. حسين الزيادي
نشر منذ Apr 15 22 pm30 10:04 PM - عدد المشاهدات : 804

 
 ا.د. حسين الزيادي
جامعة ذي قار – كلية الآداب
     في ثنايا السيرة العلوية المعطرة وفي كل مرافقها كان الإمام علي (ع) رجل الانسانية الاول بلا منازع، هذا الحكيم والفيلسوف الزاهد الذي تشرب بالعلم والحكمة لا تجد في قاموسه عبارة (الغاية تبرر الوسيلة) ، لأنه يدرك تماماً ان هذه القاعدة هي الجسر المتين لفساد الحاكم والرعية، وهي الانطلاقة الأولى التي ينطلق منها كل الطغاة، لأنها تبرر لهم التعسف والظلم والاستبداد، فالغاية والوسيلة عند علي هي العدالة ، فهو يرى أن إقامة الحق وإحقاقه هو عماد فلسفة الحكم، والحاكم يمثل الجميع بلا استئثار أو فردانية أو استغلال بل خادم امين لمصالح الرعية وتحقيق العدالة، وقد بلغ من احترام الإمام (عليه السلام) للقانون أنه لم يكن يرى لنفسه خاصية أمام القانون، وليس هناك شخص فوق القانون، ولن يستطيع أحد - ولا ينبغي له - أن يكون مانعا عن تنفيذ القانون
ويستند نظام العدالة الاجتماعية عند الامام علي(ع) على أسس وأركان تشير في حقيقة الأمر، الى ان الامام قد سبق مختلف النظريات التي وضعت عن العدالة في مختلف الاتجاهات، القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وقدم نظرية متكاملة للعدالة، لا يمكن بحال أن نجدها في أية منظومة فكرية وفلسفية أخرى. ومن الدلالات المتعلقة بمفهوم العدالة الاجتماعية التي نادى بها الامام وطبقها بحرفية ومهارة هي: التوزيع العادل للموارد، وتكافؤ الفرص، والضمان الاجتماعي، وارجاع الحقوق لأصحابها، وحرية الرأي المساواة وعدم التمييز، ومازالت عبارته المشهورة (الناس صنفان اما اخ لك في الدين او نظير لك في الخلق) ترن في أسماع الدنيا، وتتناقلها الأجيال بفخر واعتزاز، وهي حكمة خلدها التاريخ وستبقى على مر الزمان متوهجة لا تنطفئ، لأنها منطلقة من روح القرآن ومن اخلاق النبي الاكرم محمد(ص) ومن قلب مفعم بالايمان ، وعقل منفتح على الجنس البشري.
.
لكن العدالة عند الامام علي ليست هي السقف الاعلى فهناك المحبة والرأفة التي تنسجم مع العدالة ولاتتعارض معها، فالعفو عن اخطاء الرعية والشفقة عليهم ومساعدتهم غاية ملازمة للعدالة توجه بوصلتها حيثما تطلب الامر ذلك،  ويظهر هذا المعنى جلياً في عهد الامام عليّ (ع) لمالك (رض): )وأشعر قلبك الرحمة للرعيّة والمحبّة لهم واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعًا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين، وإمّا نظير لك في الخلق( 
وتتلخص أهم الأفكار التي حاول الإمام علي ترسيخها في نظام حكمه للدولة الإسلامية فيما يخص بجملة من النقاط يمكن ايجازها بالاتي:-
أولاً: تغليب الجانب الانساني في التعامل    
أقام الإمام علي عليه السلام دولته على أساس رعاية مصالح الشعب: وان كان الشعب بالوقت الحاضر يعرف بأنه مجموعة من الأفراد تربطهم رابطة ووشيجة معينة، قد تتمثل في السكن في ناحية ما، أو تجمعهم مشتركات إنسانية كاللغة المشتركة، أو الانتماء الديني، أو الأصل الإنساني أو الاجتماعي، أو قد يكون غير ذلك، ولا تكاد دولة في العالم تخلو من التنوع والأقليات، لهذا أراد الإمام علي ان يضرب لنا اروع الامثلة باحترام التنوع والسعي إلى التقرب أكثر لأفراد رعيته بالاتصال بهم بشكل مباشر بلا وساطة فقام بنقل عاصمة الخلافة إلى العراق، الذي كان في تلك الفترة بالتحديد يعج بالتنوع الإنساني الديني والمذهبي والقومي. فقد كانت الحيرة وغيرها كانت تقطنها مجموعات دينية غير مسلمة لا تدين بدين الإسلام، والحقيقة التي أرساها الإمام علي هي التركيز على الحاجات الحقيقية لأفراد الشعب ووسائل وفاء الدولة بها بأي طريق ولو كان ذلك بقسمة موارد بيت المال على الرعية، كي لا يبقى جائع أو محتاج أياً كان وفي أي مكان من أصقاع الدولة، وأثبت بذلك ان الشعب وبحق يمثل رأس مال الحاكم فان صلح الحاكم أصلح شأن الشعب والعكس صواب، ومن مسؤولية الحاكم إصلاح الشأن العام، ليقطع دابر فساد السلطة والتفاف البطانة حول الحاكم والتي من شأنها ان تجعله بعيداً عن الناس ويقدم مصلحة حكمه على مصالحهم.
وقد كرس الإمام علي (الحاكم للبلاد) هذا المفهوم برسالته المعبرة لعامله على مصر مالك الأشتر عليه السلام حين خاطبه وقال ((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْـمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، أو نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ، يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، يُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الَعَمْدِ وَالْخَطَأ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَ وَالِي الاْمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ! وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلاَكَ بِهِمْ))، والنص المتقدم يشير إلى وشائج الإنسانية وتقديمها على بقية الهويات الفرعية عند الحاكم الذي عليه ان يحترم كل تلك الهويات بما انها أساس للتعايش واحترام الآخرين. 
ثانياً: العدل المطلق بين الرعية
   توسّع الإمام (ع) في في مسألة العدل بين الرعية وأوّل ما أقره ونفّذه بنفسه، هو صلاحية القاضي بمحاكمة الخليفة نفسه، ناهيك عن عماله، تمامًا كما يحاسب جميع المواطنين وفي ذلك تطبيقاً عينياً لتجليات العدالة المنشودة في الدولة وتوصيف دقيق لما ينبغي ان يكون عليه الحاكم، وفي ذلك يقول الامام عليه السلام (وَاللهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً، أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلاَلِ مُصَفَّداً، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ، وَغَاصِباً لِشَيْءٍ مِنَ الْحُطَامِ، وَكَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا، وَيَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا؟).
حرص الإمام علي عليه السلام على إقامة العدل بين الرعية وتجنب كل شطط أو ميل لأي سبب كان، وسعى جاهداً لإرجاع الحق لأهله فمن سلب منه شيء بسلطان الحاكم أعاده اليه الإمام علي بعفو الحاكم وعدله بين الناس، وترجمة لهذا النهج السماوي يقول عليه السلام في عهده لمالك الأشتر (أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزعَ أو يَتُوبَ)
 
ثالثاً: التركيز على النزاهة في اختيار الولاة وغيرهم
ورد في كتاب له عليه السلام إلى عامله في مصر مالك الاشتر ((ثُمَّ اُنْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اِخْتِيَاراً اِخْتِبَاراً وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَ أَثَرَةً فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ اَلْجَوْرِ وَاَلْخِيَانَةِ وتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ اَلتَّجْرِبَةِ واَلْحَيَاءِ مِنْ أَهْلِ اَلْبُيُوتَاتِ اَلصَّالِحَةِ وَاَلْقَدَمِ فِي اَلْإِسْلاَمِ اَلْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلاَقاً وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً وَأَقَلُّ فِي اَلْمَطَامِعِ إِشْرَافاً إِشْرَاقاً وأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ اَلْأُمُورِ نَظَراً ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ اَلْأَرْزَاقَ فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اِسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ وَغِنًى لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ حتى يقول … وَ تَحَفَّظْ مِنَ اَلْأَعْوَانِ فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَةٍ اِجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ اِكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ اَلْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ اَلْمَذَلَّةِ ووَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ وقَلَّدْتَهُ عَارَ اَلتُّهَمَةِ))، فالامام يعرض عماله لغربلة حقيقية معيارها الايمان المطلق والزهد في الدنيا، وكان لايعطي الولاية لمن يطلبها لانه يعدها تكليف وخدمة للرعية وليست تشريفاً لاحد.
رابعاً: مكافحة فساد السلطة
عملاً بمبدأ العدالة اعاد الإمام علي عليه السلام كل القطائع المالية التي اقتطعت من مال المسلمين وقال في خطبة له (اَللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ اَلنِّسَاءُ وَ مُلِكَ بِهِ اَلْإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ فَإِنَّ فِي اَلْعَدْلِ سَعَةً وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ اَلْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ)، وهذا النص بما يحمله من معانٍ سامية إنسانية أصلاً قائمة على العدل بين الرعية وان لا تفرض ضريبة أو تصادر الأموال أو تستملك بحجة الضرورة أو حاجة الدولة إنما يكون ذلك برضا المحكوم التام أو يكون لزاماً على الحاكم المسلم ان لا تمتد يده إلى تلك الأموال فالناس مسلطون على أنفسهم وأموالهم، والامام يعرف جيداً ان ضريبة العدل ستكون باهظة وربما فقد حكمه بسبب ذلك لكن ابن ابي طالب لم يكن الحكم يعني له شيئاً اما العدالة. 
أما الوزراء فيجب ألاّ يكونوا ممّن يسايرون الحاكم على الباطل أو الخطأ أو الرأي الضعيف، لذا يوصي عليّ (ع) مالكًا (رض) بقوله: (ثم ليكن آثرهم (وزرائك) عندك أقولهم بمرّ الحقّ لك، وأقلّهم مساعدة فيما يكون منك ممّا كره الله لأوليائه، واقعًا ذلك من هواك حيث وقع، والصقْ بأهل الورع والصدق، ثم رُضْهُم على أن لا يطروك، ولا يَبْجِّحُوك بباطل لم تفعله، فإنّ كثرة الإطراء تُحدث الزهوة، وتدني من الغِرَّة).
اهتم الامام علي اهتماماً بالغاً في مجال التنمية من خلال تنمية الانسان وهي ما يسمى الان بـ (التنمية البشرية) ، كما اهتم في مجال التنمية الاقتصادية من خلال إرساء العدل الاقتصادي الذي يعد اهم اركان التنمية التي تسير عليها الدول المتقدمة اليوم، وتلك المبادئ ذاتها التي تدعو لها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، وهي مصطلحات وان لم تكن معروفة سابقاً بمعناها الحالي، الا ان  الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام) جسدها فكراً وتطبيقاً والامثلة لايتسع لذكرها المكان .
 
 
 


صور مرفقة






أخبار متعلقة
مشاركة الخبر
التعليق بالفيس بوك
التعليقات
اعلانات تجارية
اعلانات تجارية
استطلاع رأى

هل انت مع الجيش العراقي ؟

0 %

0 %

0 %

عدد الأصوات : 0

أخبار